ابن بطوطة الرجل: هو شمس الدين أبو عبد الله محمد بن عبد الله، بن إبراهيم اللواتي الطنجي، المعروف بابن بطوطة. من كبار الرحّالة العالميين. ولد في طنجة في (24 شباط 1304م/17 رجب 703هـ)، في أسرة أنجبت بعض رجال الفقه وظلّ فيها إلى أن بلغ الثانية والعشرين. ولا نعلم شيئاً عن أحواله في هذه المدينة، إلا ما يظهر من خلال أقواله، من أنه كان يعيش مع والديه وكثير من الأصحاب براحة وطمأنينة. ولم تكن تمرُّ في باله الهجرة، إلى أن دعاه داعي الحج إلى مكة، فلبّاه
ترك طنجة في( 14 حزيران 1325م) قاصداً إلى مكة. ولكنه لم يكتفِ بهذه الرحلة، بل أطالها حتى جاب أكثر العالم المعمور في ذاك العصر، كما سنذكر بالتفصيل في كلامنا على الرحّالة. وكان سفره ينال كثيراً من الإكرام، حتى انه عُيّن قاضياً لسلطان دهلي، محمد شاه، ثم سفيراً لهذا السلطان لدى ملك الصين.
وبعد ذلك رجع إلى وطنه، فدخل مدينة فاس في( 8 تشرين الأول 1349م). وقد سلبه كفار الهنود في احد أسفاره، فخسر جميع ما كان قد كتبه من المعلومات.
ولم يطل به المقام حتى قام برحلة ثانية إلى اسبانية رجع منها بعد مدّة قصيرة الى فاس.
وكان له ان يكون أول زائر دوَّن معلوماته عن مجاهل إفريقيا المتوسطة، فاستعد لرحلة ثالثة أتمها في مدة سنتين (1352 ـ 1354). فزار بلاد السودان حتى وصل إلى تنبكتو، وتكدّا، وهكّار، ثم رجع إلى فاس.
وكان أمير مراكش حينذاك السلطان أبا عنان من بني مرين، فاتصل به ابن بطوطة، وأقام في حاشيته، يحدّث الناس عما رآه من العجائب والغرائب، وهم يستغربون. فأجزل له السلطان المواهب، وتقدّم إليه أن يدوّن هذه الأخبار والمشاهد العديدة، فأملاها على كاتب السلطان، الأديب محمد بن جزى الكلبي. فانتهى من كتابتها في شباط (1356م)، وسمّاها: “تحفة النُظَّار في غرائب الأمصار، وعجائب الأسفار”. وعاش ابن بطوطة بعد ذلك مكرماً في بلاد فاس، إلى وفاته سنة1377
كان ابن بطوطة، على ما يظهر في رحلته، رقيق الشعور، سريع التأثر، متديناً تقيّاً، مكرماً لرجال الله، محبّاً لوالديه. وقد حفظ هذه العواطف في كل أسفاره، فكان يذكر جميع من يشاهدهم من الشيوخ والزاهدين، والفقراء المتعبّدين، ويثني عليهم، ويطلب بركتهم. كذلك يورد كل ما يسمعه عن أعمال الخير ومُنشآت الصالحين من أوقاف وملاجئ وغيرها، سائلاً الله أن يجزي رجال الإحسان خير جزاء. وكم من مرَّةٍ رأيناه يتبرك بقبور الأولياء. ومزارات الصالحين، ويبيت في الزوايا. وقد حجَّ إلى مكة أربع مرات، وهو لا يفتر عن ذكر ما ناله من الخيرات بسبب ذلك.
وكان يتثقف أدبياً ودينياً في مراحل سفره. فيتعلم شيئاً من لغات الشعوب التي يزورها، ويفيد من مواعظ الصالحين، وعبادات المتصوفين.
أما حبه لوالديه فيظهر جلياً، في مقدّمته، إذ يذكر أنه تركهما. وهما في قيد الحياة “فتحمَّل لبعدهما وصباً، ولقي، كما لقيا، من الفراق نصباً”. ولم يعد من رحلته الأولى سنة(1349)، حتى بلغه أن أمه توفيت، فحزن وترك حاشية الملك أبي عنان في فاس إلى بلده طنجة “قاصداً زيارة قبر الوالدة”.
ومن سرعة تأثره، وفرحه الجزيل لدى أقل إنعام يحصل عليه، وحزنه الصبياني الممزوج بالتباكي، أو الغضب، إذا لم يكترث له أحد. وما رأيك في رجل لا يكاد يضيفه إنسان إلا أصبح أعزّ صديق له، حتى إذا دخل مدينة فلم يسلم عليه أحدٌ لعدم معرفتهم به، “يجد من ذلك في نفسه ما لا يملك معه سوابق العبرة، فيشتد بكاؤه إلى أن يشعر بحاله بعض الحجَّاج. فيقبل عليه السلام والإيناس”. وان سرعة التأثر هذه، التي من نتيجتها سرعة التبلد، أي موافقة أخلاق الرجل لأخلاق البلد النازل فيه، تبين لنا تعود ابن بطوطة مفارقة أهله، والإقامة في بلاد غريبة عنه، وهو على ما عرفنا من شدة التعلق، ورقة العواطف. فهو سريع الألفة، سريع النسيان كذلك.
ابن بطوطة الرحالة: قام ابن بطوطة بثلاث رحلات واسعة، جاب فيها أكثر بلاد المعمور المعروفة في زمانه:
الرحلة الأولى: (1325 ـ 1349) ترك طنجة قاصداً مكة فجاب بلاد مراكش، والجزائر، وتونس، وطرابلس الغرب، ومصر وسار من القاهرة إلى الصعيد حتى عَيذاب، قاصداً الإبحار من هناك إلى الحجاز. ولما تعذّر سفره بحراً، بسبب حرب قامت بين البجاة والمماليك، رجع إلى مصر، وتابع رحلته عن طريق فلسطين، ولبنان، وسورية، فالحجاز. فحج مرة أولى ورحل إلى العراق، والعجم، وبلاد الأناضون. ومنها رجع إلى الحجاز، فحج ثانية، وجاور في مكة سنتين (1328 ـ1329).
وبعد ذلك ترك الحجاز قاصداً اليمن، فقطعه إلى افريقية الشرقية. ثم عاد ماراً بجنوبي جزيرة العرب، حتى وصل إلى خليج فارس زائراً عُمان، وهُرمز، والبحرين، والإحساء. ومن هناك عاد إلى الحجاز، فحج ثالثةً.
ثم ترك مكة، فهبط مصر ثانيةً. ورجع إلى فلسطين، ولبنان، وبلاد العلويين، والأناضول، وبلاد القريم. ثم رافق الأميرة اليونانية امرأة السلطان محمد ازبك إلى القسطنطينية، فأقام بها مدة. وعاد إلى الهند ماراً بخوارزم، وخراسان، وتركستان، وأفغانستان، والسند. وأقام في دهلي سنتين، قاضياً لسلطانها محمد شاه، على المذهب المالكي.
وكان أن هذا السلطان أراد إرسال بعثة إلى ملك الصين، فرافقها ابن بطوطة حتى جُزُر ذيبة المهل، حيث أقام قاضياً سنة ونصف سنة. وتركها، بعد ذلك، إلى جزيرة سيلان، والملبار، وبنغال، وجزائر الهند، والصين.
ثم رحل إلى بلاد العرب عن طريق سومطرة، فنزل ظفار في شهر محرم 748 (نيسان 1347).
وبعد أن زار مرّةً اخرى بلاد العجم، والعراق، وسورية، وفلسطين، حجّ رابعةً إلى مكة ورجع نهائياً إلى بلاده مارّاً بمصر، وتونس، والجزائر، فوصل إلى فاس في 8 تشرين الثاني 1349.
الرحلة الثانية: (1350 ـ 1351)،ولم يقم طويلاً في فاس حتى تركها إلى الأندلس فمرّ بطنجة، وسبتة، وجبل طارق، ومالِقة، وغرناطة. ثم رجع إلى فاس.
الرحلة الثالثة: (1353 ـ 1354)، زار في هذه الرحلة المهمة بلاد السودان مبتدئاً بسجلماسة، فتغازي، وايوالاتن، وزاغري، وكارسخو، ومالي، وتـنبكتوا، وتكدا، وبلاد هكار. ثم رجع إلى مقرّه بفاس.
أقام ابن بطوطة، بعد رحلاته، في حاشية الملك أبي عنان يخبر الناس بما رآه من العجائب والغرائب في أخلاق الشعوب وعاداتهم، وهول الخلائق من نبات وحيوان وإنسان. فكان الكثيرون يقبلون عليه مستغربين هذه الأمور، وكان البعض من مدّعي النقد يكذبونه، فينهاهم آخرون عن تكذيب أمور لا يعرفون من حقيقتها شيئاً.